هذا حوار رائع بين الأديب والكاتب أبو مالك العوضي وقلمه
اشتقتُ إليك يا قلمي!!
فلطالما كنتَ مؤنسي في وحدتي، وسَلْوتي عند وحشتي، فما لك اليوم صرتَ إلى جفاء صديقك الحميم، وهِجران خليلك القديم؟
أما تَحِنُّ إلى طرب الاهتزاز على الصحائف؟
أما تشتاق إلى تسويد الأوراق بنور الكلمات؟
أما تهفو إلى بث الأشجان وإخراج مكنون الفؤاد؟
ما لِحِبْرك يا قلمي صار جامدًا، وآخِرُ عهدي بك سَيّالا لا تُعوِزك العباراتُ، ولا تتوقف لاختيار الكلمات؟
ألا تذكر يا قلمي تلك الليلة التي كتبتُ فيها خواطري بين أدمعي حتى بلَّلت أسطري؟
أنسيتَ سعادتنا معًا بكتابة مذكرات تلك الليالي الدافئة، حيث الانفراد في البيت واتخاذ الكتاب رفيقًا؟
أجفوتَ ما سوَّدناه معًا من صفحاتٍ فيها تحريراتٌ بالغات وبحوث نيرات هي خلاصة اللب وثمرة الفؤاد؟
ما لِجِسمك يا قلمي صار شاحبًا، وقد كان من قبل ينطف نضارةً وحُسنًا؟
ولما لِجِلْدك يا قلمي صار جافًّا خشنًا، وهو الذي كان ناعمًا في يدي يكاد يكتب الكلمات وحده!
وما لي أراك تُقدّم رجلا وتؤخر أخرى حال الكتابة، وعهدي بك قديمًا تكتب وتكتب، ولا يكاد يوقفُك شيءٌ، حتى لتكاد تسبق ذهني إلى الكلمات سَبْقًا؟
لا أريد أن أتَمَلَّقك يا قلمي، فليس ذاك من خلقي ولا خلقك!
ولكني أذكرك بما قيل في القرطاس والقلم من المديح الذي سارت به الركبانُ، وما كُتِب في فضائلهما في القديم والحديث.
ألا تذكر قول أبي تمام الطائي يمدح صاحب قلم:
لك القلمُ الأعلى الذي بشباته يصابُ من الأمر الكلى والمفاصلُ
لعابُ الأفاعي القاتلات لعابُه وأَرْيُ الجنى اشتارتْه أيدٍ عواسلُ
له ريقة طل ولكن وقعها بآثاره في الشرق والغرب وابلُ
فصيحٌ إذا استنطقتَه وهو راكب وأعجمُ إن خاطبتَه وهو راجلُ
إذا ما امتطى الخمسَ اللطاف وأفرغت عليه شعاب الفكر وهي حوافلُ
أطاعته أطرافُ القنا وتفوضت لنجواه تفويض الخيام الجحافلُ
إذا استغزر الذهن الجلي وأقبلت أعاليه في القرطاس وهي أسافلُ
وقد رَفَدته الخنصران وسدَّدت ثلاثَ نواحيه الثلاثُ الأناملُ
رأيتَ جليلا شأنه وهو مرهفٌ ضنى وسمينًا خطبُه وهو ناحلُ
أفضقتَ ذرعًا بهذه الدنيا؟ أم هانت عليك هذه الفضائل؟
ولا أريد أن أقول: أم أصابك الغرورُ، فلم تَجِد لما عندك موضعًا يحتملُه، فآثرت دفنَ بنات الأفكار على إنكاحهن من غير الأكفاء؟
لا إخالُك شختَ أو أصابك الوهنُ، فما تلك من صفاتك ولا من صفات بناتك؟
ولا إخالُك مَلِلتَ من التكرار، فالعلم بحر لا ساحل له، فوق أنه يزكو على الإنفاق.
تذكَّرْ ماضيَك يا قلمي، فلعله يشوقُك ويسوقُك إلى معاودة المسير:
فكم من ضال قد هَدَتْه كلماتُك!
وكم من أعمى قد بصّرته عباراتُك!
وكم من باحث قد أرشدته سطورُك!
وكم من مُستَمْلِحٍ أطربته جملُك وفقراتُك!
سطورُك سوداء.. لكنها في القلوب بيضاء، جسمك ضئيل.. لكنه يهزم حامل السيف الصقيل.
جِرْمك صغير.. لكن علمك كبير!
تنطق بغير لسان، ويُبصَر بك وما لك عينان، وتنقل أخبار العالم وليس لك رجلان.
لا يُبرم أمرٌ ولا يُحل إلا بك، ولا يُوثق شيء ولا يفسخ إلا في ظلك، تعين الأبكم على الإفصاح عن مكنون فؤاده، وتساعد العالم على إبقاء لسان الصدق له أبد الآبدين.
كم كانت كلماتُك إحياءً لأناس وموتًا لآخرين؟
كم كانت سطورُك فتحًا للبلدان وإقامة للقرى؟
ليس لك فم.. إلا أنك أحد اللسانين!
وليس لك لسان.. إلا أنك أحد الفصاحتين!
ولا تملك كرسيًّا.. إلا أنك أحد الرياستين!
ليس لك حد يقتُل.. إلا أن خطك أحدُّ من السيف!
وليس لك جند يَحمِل.. إلا أن حبرك يفوق من الجنود الألف!
أجبني يا قلمي!.. فقد طالت مناداتي لك ومناجاتي، فلا تدعني صريعَ اليأس خليلَ الهموم، فلم يبقَ لي من صاحب ألجأُ إليه إلا أنت، فأنت أولُ صاحب وآخرُ صديق!
وأخيرًا أجاب القلم، فقال:
اشتقتُ إليك يا صاحبي، فلنِعْمَ الأنيسَ كنت لي، وأنا على العهد مستمر لم أحِدْ يومًا عن الطريق، إلا أنك تغيرتَ وجفوتني فأصابني هزالُ الإهمال، وكدتُ أموت من قلة حبر الحياة وماء الحركة.
أتتهمني بالجفوة يا صديقي؟!
ألم تتركني إلى ركن الإهمال؟
ألم تستبدل بي صحابًا آخرين؟
ألم يستولوا على قلبك حتى لم يدَعوا لي مكانًا فيه؟
أين ما كنت تُطربني به من لذيذ الأشعار؟
أين ما كنت تُتحفني به من نوادر الكلمات ومحاسن العبارات؟
أين بحوثُك وتنبيهاتك؟
أين نكتُك ولطائفك؟
أين منقولاتك وتعليقاتك؟
أين تلخيصاتك وملحوظاتك؟
أين مراجعاتك لمحفوظاتك؟
لقد تغيرتَ أنت يا صاحبي فلستَ بصاحب الأمس!
أما أنا فكما أنا، على العهد محافظ، وعلى الجادة مرابط، أنتظر أوبتَك بفارغ الصبر!
إنني أمانة يا أخي، فلا تتعرض منها لما لا تطيق، واعلم أن ما تكتبه اليوم فستسأل عنه غدًا، فلماذا تستعملُني فيما يضرك غدا ولا ينفعك اليوم؟!
أخشى أن أثقل سمعك بأوقار ما أسمع من قصص إخواني الأقلام، فما أظن الحجرَ يحتملُها فضلا عن البشر، ولكن صدق خالق البشر: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74].
فهذا قلم..
.. وقع بيد منافق عليم اللسان، فأصيب هذا القلم بالهزال من كثرة ما سطَّر به صاحبُه من خبيث الأورام!! وأصيب بالجذام من كثرة ما دس به صاحبه السم في العسل!! وأصيب بالخبل من كثرة ما يقول صاحبه ولا يفعل! وصار يردد كل يوم قول حافظ:
كم عالمٍ مدَّ العلومَ حبائلا لتباغض وقطيعةٍ وفراقِ
وأديبِ قوم تستحقُّ يمينُه قطعَ الأنامل أو لظى الإحراقِ
في كفه قلمٌ يمج لعابه سَمًّا وينفثه على الأوراقِ
لو كان ذا خلق لأسعد أهله ببيانه ويراعه السباقِ
وهذا قلم..
.. وقع بيد جاهلٍ ساقته الأيدي الخفيةُ ليكونَ من علية القوم، فصدروه ولا يستحق التصدير، وكبَّروه ولا يستحق إلا التحقير، فأصاب قلمَه التخمةُ من كثرة ما يكتب من هراء، وامتلأ بالانتفاخات من كثرة ما في كلامه من الهواء، وزاغت عيناه من كثرة ما يسطّره من جهالات.
وهذا قلم..
.. وقع في يد منتسب إلى طلب العلم، إلا أنه مغرور يظن نفسه أعلمَ العلماء، ويضع نفسه في مرتبة إمامة العصر، فتراه كلما خطر له خاطرٌ جعله أصلا وصنف فيه التصانيف، واحتال على الاحتجاج له بكل ما يمكنه، فلا تدري الأمةُ أمن أعدائها ينبغي التحرز أمن من قلم هذا؟!
وهذا قلم..
.. سقط لسوء حظه بيد شاعر ماجن، لا يري شيئًا يستحق القولَ إلا القصائد الساقطة والشعر المرذول والكلام الفاحش، حتى تساقط وجهُ هذا القلم مزعةً مزعةً، من شدة الحياء.
وهذا قلم..
.. اجتمعت له الدنيا بفخامتها، فصار إلى كبير من الكبراء أو عظيم من العظماء، لكنه مع هذا أتعسُ هذه الأقلام وأشقاها؛ إذ لا يكاد يكتب إلا ما هو ظلم لإنسان، أو إسقاط حق لآخر، أو قرار تعذيب لثالث، أو أمر قتل لرابع، أو عقاب ظالم لخامس، أو تزوير في أوراق رسمية، أو توقيع على رشوة، حتى أوشك هذا القلم على الانتحار تجنبًا لما يصيبه من آلام هذه المآسي.
وهذا قلم..
.. اجتلبه صاحبه للزينة؛ يلمعه كل يوم وينظفه، ثم يضعه في موضعه اللائق على المكتب، وأما الكتابة فلا يسطر به سطرًا، ولا يكتب به كلمة، فهو عن العلوم والآداب بمعزل، فصار حيًّا أشبه بالأموات، وإنما الميت ميت الأحياء.