بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على رسول الله - أما بعد:
مهمة الرسول ومهمة الداعية وهي البلاغ والبيان والإيضاح وإرشاد الخلق إلى ما خلقوا له ، أما الهداية وقذف النور في القلب وقبول الحق وإيثاره هذا إلى الله عز وجل ليس إلى الداعية وليس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة مسألة عظيمة قد أحسن في التنبيه عليها فإن كثيرا من الدعاة يضيقون صدرا إذا لم يستجب لهم وربما يئسوا فتركوا لضيق الأفق وعدم الصبر وليس هذا شأن الرسل عليهم الصلاة والسلام ولا من أخلاقهم بل أخلاقهم الصبر وعدم اليأس وعدم الحزن ، وقد نبه الله نبيه على ذلك عليه الصلاة والسلام فجدير بالداعية أن يتأسى برسوله صلى الله عليه وسلم وأن يتبع خطاه وأن يحذر التغيير والتحريف من أجل الرغبة في هداية الناس ومن أجل الرغبة في مواقفهم لما يقول ، وهذا باب عظيم وخطير جدا وقد نبه الله على ذلك في الآيات التي سمعتم (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) [الإسـراء : 73 - 75] هذه الآيات فيها العظة العظيمة والتنبيه العظيم لرسولنا وللدعاة بعه وأن الواجب أن يبلغ رسالات الله كما هي وألا يزيد فيها ولا ينقص منها أسلم الناس أم لا قبل الناس أم لا ، الأمر بيد الله جل وعلا (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [البقرة:272] . (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص:56] .
ومعلوم ما جري للرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس وما فعلت قريش من قولها إن شئت جميعا لك كذا وكذا إن شئت سودناك علينا إن شئت زوجناك أحسن امرأة … الخ . كل ذلك ليصدوه عما جاء به ويصرِفوه عن دعوته ولعله يستجيب لهم فأبى ذلك واستمر في دعوته وإرشاده وتبليغه حتى أصابه ما أصابه من أذاهم الذي لا يخفى على من له علم بالسيرة في مكة ثم عزموا على قتله فخلصه الله منهم وأنجاه من شرهم وكيدهم وانتقل إلى دار الهجرة وصبر على أذى المنافقين وأذى غيرهم من أمثالهم حتى أظهر الله دينه وأعلى كلمته ونصر عبده ونبيه ونصر حرمه.
المقصود أن هذا أمر واضح وأن الواجب على الدعاة إلى الله عز وجل أن يكون عندهم من التحمل والصبر على الدعوة ما يمكنهم من الوصول إلى ما أرادوا من التبلغي وإيصال الحق إلى الناس وبيان ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الهدى ثم ذلك الأمر إلى الله وحده قال تعالى: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا) [النازعات:45] . إنما أنت مبلغ ، إنما أنت مرشد إنما أنت هاد ، فمهمتك البلاغ والبيان (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى:52] .
أما الهداية التي هي إيصال الحق إلى القلوب والرضى به وقبوله وإيثاره على الباطل هذه ليست إليك أيها الداعية ولا إلى غيرك حتى الرسل وهم أفضل الخلق ليس لهم ذلك ، فعلينا أن نتحمل الأمر وأن نصبر عليه غاية الصبر حتى نبلغ رسالات الله وحتى نبلغ أمانة الله ودعوة الله ، فمن هداه الله فالحمد لله ومن لم يهده فالأمر إليه سبحانه وتعالى هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الحكيم العليم جلا وعلا ولهذا قال سبحانه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين . وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ . وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل:125-128] فالمؤمن لا يحزن ولا يتضايق وقد نبه الله نبيه على هذا فقال سبحانه: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ . وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) [الأنعام:33-34]
فالداعية يتحمل ولا يحزن ولا يُهلك نفسه من أجلهم ولكنه يكون واسع البال صبورا على قد ما يصيبه من الأذى من سخرية وغير ذلك وقد صَبَر نوح عليه السلام على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما لم ييأس وهو يدعوهم إلى الله عز وجل حتى أُوحى إليه: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [هود:36] حينئذ دعا عليهم بقوله: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح:26] لأنهم لا خير فيهم بعد ذلك.
فلو عُمرت ألف سنة إلا خمسين عاما كما عُمِّر نوح عليه السلام فلا تيأس ، فالداعية قد يبتلى إما بالتغيير أو التحريف ليرضيهم لعلهم يتابعونه ، وإما بالحزن العظيم والضيق الشديد والحرج حتى يشق عليه الكلام ، وإما باليأس والعياذ بالله حتى يدع الدعوة ويقول هؤلاء لا خير فيهم لا فائدة منهم وهم في هذا العصر قد تحرفوا ولا يقبلون هداية فييأس عند هذا ويتحسر ويدع الدعوة وكل هذا غلط لأنه مخالف لهدى الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فلا يأس ولا حزن ولا مضايقة ولكنه يتحمل وليصبر قال جلا وعلا: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية:18-19]
فالله جلا وعلا ما أبقى شيئاً للرسل ولا لأتباعهم دون بيان ، فقد أوضح لهم الأمر (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) أي شيء واضح بين (فأتبعها ولا تتبع أهواء الذي لا يعملون) ليس لنا أن نتبع أهواءهم ولو ظننا أنهم إذا اتبعنا بعض أهوائهم فعلوا وفعلوا وساعدونا ، إنهم لن يُغنوا عنك من أحد شيئا ، فالأمر بيده سبحانه وتعالى ينصرُ من يشاء ويُعز من يشاء ويُذل من يشاء ولو كانوا أقوى من على ظهر الأرض فربك قادر على أن يُبطل كيدهم وينصر الحق عليهم مهما كانت قواهم ومهما ضعف أهل الحق ، فربك على كل شيء قدير، ولا يخفي ما جرى يوم الأحزاب إذ تجمعت قريش وتجمع من تجمع من الأحاديث وغيرهم وجمعوا من القوى ما جمعوا حتى بلغت قواهم فيما ذكر أهل السير عشرة آلاف وعشرة آلاف لها شأن في ذاك الوقت عظيم ، عشرة آلاف توجهوا إلى المدينة وحاصروا المدينة مدة طويلة وحصل على المدينة ما حصل من الضيق الشديد فما حزن المؤمنون بل زادهم إيمانا وتسليما ، زادهم ذلك إيمانا وتسليما وضاق بذل المنافقون وضعفاء البصائر ، ثم يسر الله للمسلمين النصر والتأييد من عنده جلا وعلا كما قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً . إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب:9-11] فالأمر بيد ه سبحانه وتعالى زلزلهم ورجعوا خائبين ولم يصيبوا شيئا ولم يقتلوا أحدا سوى ما جرى من إصابة سعد بن معاذ من الجرح الذي انفتق عليه بعد وقعة بنى قريظة ، وصار فيها قتيل واحد من المسلمين وقتيل واحد من الكفار ، ثم انصرف الناس: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) [الأحزاب:25] .
وأمَرَ رسـول الله صلى الله عليه وسلم أصحـابه بالتوجـه إلى بنى قريظـة الذي ظـاهـروا المشـركين على حـرب المسلمين وخـانوا عهـدهـم وغـدروا برسـول الله صلى الله عليه وسلم وأصحـابه وحاصروهـم مدة رضـوا بعدهـا بأن يُحكِموا سعد بن معاذ رضي الله عنه وحكم سعد بأن يقتل الرجال ويسبى الذراري والنساء وتقسم الأموال ونزلوا على حكم سعد وقتلوا وقسمت أموالهم ، صارت ذريتهم ونساؤهم سبيا للمسلمين ، هذه من آيات الله ومن الدلائل العظيمة على نصر الله للمؤمنين التي وقعت قبل أول هذا الأمر ، وللدعاة وللمجاهدين ولأهل العقل عبرة وعظة في ذلك ونسأل الله للجميع البصيرة والتوفيق والهدى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وجزى الله الشيخ جعفر خيرا وبارك فيه وزاده وإياكم نعيماً وتوفيقاً وهدى .